"ستنجو...ولكن ستصبح شخصا آخر"
كان هذا رد جدى الوحيد فى كل مرة ذهبت لأشكو له من مشكلة ما.
كان غريبا..يصغى إلىّ باهتمام باهت، لا يسأل عن تفاصيل ولا عن أسباب. ولا مرة ينظر في عيني وأنا أحكي له مآسىّ، حتي يظن البعيد أنه لا يسمعني أصلا.
لا أعلم لماذا كنت أذهب إليه. ربما لأنه كان يسمع فقط - أو يتظاهر بالسمع- ولا يحكم..
أو لأني أعلم أنه لن يتذكر كلمة مما أحكيها بمجرد أن أختفي من أمامه.. لقد كان خير حافظ للسر!
لا..ليس هذا ولا ذاك.
جدى كان صامتا...لا يتكلم ولا يبدو أي تعبير علي وجهه..
من يراه يظنه حالما.. ولكن أنا الوحيد الذى كنت أفهمه
جدى كان هائما في عالم غير عالمنا..
جسده حاضر معنا ولكن روحه.. روحه غائبة في بُعد آخر
أعلم أنه لم يختر هذا الطريق، ولكن عقله البالي أجبره على الاستسلام مبكرا. أم كان قلبه من تولي زمام الأمور؟
نعم قلبه..ذلك الكيان الوحشي المستحيل السيطرة عليه.
حذرتنى أمي منه في صغرى..
"سيأتي يوم تدرك فيه أن أسوأ أعدائك ليس شخصا بذاته، بل ذلك الوهج النابض بداخلك. احذر يا صغيري، فإن ثار عليك ستنقلب خلاياك إلى رماد"
وهذا ما حدث مع جدى...
تمكن منه قلبه عندما رأى جدتي أول مرة...
وعاشا سويا ما يقرب من نصف قرن، لم يفترقا لأكثر من يوم.
حتي أراد القدر أن ترجع المليكة لبارئها..
هنا ثار القلب وتمردت الروح واحترقت آخر خلايا العقل.
ولم يتحمل جدى الفراق..حاولت روحه اللحاق بأنيستها..ولكنها تعلقت في الطريق.. ولم تقوى على الرجوع.
فأصبح جسدا فارغا بلا عقل..وبلا قلب..وبلا روح.
لم يمت جدى.
نجا..
ولكنه أصبح شخصا آخر..

No comments:
Post a Comment